فصل: تفسير الآية رقم (46):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معالم التنزيل المشهور بـ «تفسير البغوي»



.تفسير الآية رقم (46):

{وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزلَ إِلَيْنَا وَأُنزلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46)}
قوله تعالى: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ} لا تخاصموهم، {إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} أي: بالقرآن والدعاء إلى الله بآياته والتنبيه على حججهُ وأرادَ مَنْ قَبَلَ الجزية منهم، {إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} أي: أبوا أن يعطوا الجزية ونصبوا الحرب، فجادلوهم بالسيف حتى يسلموا أو يعطوا الجزية،
ومجاز الآية: إلا الذين ظلموكم، لأن جميعهم ظالم بالكفر. وقال سعيد بن جبير: هم أهل الحرب ومن لا عهد له. قال قتادة ومقاتل: صارت منسوخة بقوله: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله} [التوبة- 29]. {وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزلَ إِلَيْنَا وَأُنزلَ إِلَيْكُمْ} يريد إذا أخبركم واحد منهم من قبل الجزية بشيء مما في كتبهم فلا تجادلوهم عليه، ولا تصدقوهم ولا تكذبوهم، وقولوا: آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم.
{وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا محمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، أخبرنا محمد بن إسماعيل، أخبرنا محمد بن بشار، أخبرنا عثمان بن عمر، أخبرنا علي بن المبارك، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: كان أهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم، وقولوا: آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إليكم». أخبرنا أبو سعيد عبد الله بن أحمد الطاهري، أخبرنا عبد الصمد بن عبد الرحمن البزاز، أخبرنا محمد بن زكريا العذافري، أخبرنا إسحاق بن إبراهيم الدبري، أخبرنا عبد الرازق، أخبرنا معمر عن الزهري، أخبرنا ابن أبي نملة الأنصاري أن أباه أبا نملة الأنصاري أخبره: أنه بينا هو جالس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءه رجل من اليهود ومرّ بجنازة، فقال: يا محمد هل تتكلم هذه الجنازة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الله أعلم»، فقال اليهودي: إنها تتكلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم، وقولوا آمنا بالله وكتبه ورسله، فإن كان باطلا لم تصدقوه وإن كان حقًا لم تكذبوه».

.تفسير الآيات (47- 48):

{وَكَذَلِكَ أَنزلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلا الْكَافِرُونَ (47) وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48)}
قوله تعالى: {وَكَذَلِك} أي: كما أنزلنا إليهم الكتب، {أَنزلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} يعني: مؤمني أهل الكتاب، عبدَ الله بن سلام وأصحابه، {وَمِنْ هَؤُلاءِ} يعني: أهل مكة، {مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ} وهم مؤمنوا أهل مكةُ {وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلا الْكَافِرُونَ}، وذلك أن اليهود عرفوا أن محمدًا نبيٌ، والقرآن حقّ، فجحدوا. قال قتادة: الجحود إنما يكون بعد المعرفة.
{وَمَا كُنْتَ تَتْلُو} يا محمد، {مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ} قبل ما أنزل إليك الكتاب، {وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} ولا تكتبه، أي: لم تكن تقرأ ولا تكتب قبل الوحي، {إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} يعني لو كنت تكتب أو تقرأ الكتب قبل الوحي لشك المبطلون المشركون من أهل مكة، وقالوا: إنه يقرؤه من كتب الأولين وينسخه منها، قاله قتادة. وقال مقاتل: {المبطلون} هم اليهود، ومعناه: إذًا لشكوا فيك واتهموك، وقالوا إن الذي نجد نعته في التوراة أمي لا يقرأ ولا يكتب وليس هذا على ذلك النعت.

.تفسير الآيات (49- 52):

{بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلا الظَّالِمُونَ (49) وَقَالُوا لَوْلا أُنزلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (52)}
{بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ} قال الحسن: يعني القرآن آيات بينات، {فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} يعني المؤمنين الذين حملوا القرآن. وقال ابن عباس رضي الله عنهما، وقتادة: بل هو- يعني محمدا صلى الله عليه وسلم- ذو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم من أهل الكتاب، لأنهم يجدونه بنعته وصفته في كتبهم، {وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلا الظَّالِمُونَ}.
{وَقَالُوا لَوْلا أُنزلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ} كما أنزل على الأنبياء من قبل، قرأ ابن كثير، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر: {آية} على التوحيد، وقرأ الآخرون: {آيات من ربه} لقوله عز وجل: {قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ} القادر على إرسالها إذا شاء أرسلها، {وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ} أنذر أهل المعصية بالنار، وليس إنزال الآيات بيدي.
{أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ} هذا الجواب لقوله: {لولا أنزل عليه آيات من ربه} قال: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} يعني: أولم يكفهم من الآيات القرآن يتلى عليهم، {إِنَّ فِي ذَلِكَ} في إنزال القرآن، {لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} أي: تذكيرا وعظة لمن آمن وعمل به.
{قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا} أني رسوله وهذا القرآن كتابه، {يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ} قال ابن عباس: بغير الله. وقال مقاتل: بعبادة الشيطان، {وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}.

.تفسير الآيات (53- 56):

{وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (53) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (54) يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55) يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56)}
{وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ} نزلت في النضر بن الحارث حين قال: فأمطر علينا حجارة من السماء {وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى} قال ابن عباس: ما وعدتك أني لا أعذب قومك ولا أستأصلهم وأؤخر عذابهم إلى يوم القيامة كما قال: {بل الساعة موعدهم} [القمر- 46]، وقال الضحاك: مدة أعمارهم، لأنهم إذا ماتوا صاروا إلى العذاب، وقيل: يوم بدر، {لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ} يعني: العذاب وقيل الأجل، {بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} بإتيانه.
{يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ} أعاده تأكيدا، {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} جامعة لهم لا يبقى أحد منهم إلا بدخلها.
{يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} يعني: إذا غشيهم العذاب أحاطت بهم جهنم، كما قال: {لهم من جنهم مهاد ومن فوقهم غواش} [الأعراف- 41]، {وَيَقُولُ ذُوقُوا} قرأ نافع، وأهل الكوفة: {ويقول} بالياء، أي: ويقول لهم الموكل بعذابهم: ذوقوا، وقرأ الآخرون بالنون؛ لأنه لما كان بأمره نسب إليه، {مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أي: جزاء ما كنتم تعملون.
{يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} قال مقاتل والكلبي: نزلت في ضعفاء مسلمي مكة، يقول: إن كنتم في ضيق بمكة من إظهار الإيمان فاخرجوا منها إلى أرض المدينة، إن أرضي- يعني المدينة- واسعة آمنة. قال مجاهد: إن أرضي المدينة واسعة فهاجروا وجاهدوا فيها. وقال سعيد بن جبير: إذا عمل في أرض بالمعاصي فاخرجوا منها فإن أرضي واسعة. وقال عطاء: إذا أمرتم بالمعاصي فاهربوا فإن أرضي واسعة. وكذلك يجب على كل من كان في بلد يعمل فيها بالمعاصي ولا يمكنه تغيير ذلك أن يهاجر إلى حيث يتهيأ له العبادة. وقيل: نزلت في قوم تخلفوا عن الهجرة بمكة، وقالوا: نخشى، إن هاجرنا، من الجوع وضيق المعيشة، فأنزل الله هذه الآية ولم يعذرهم بترك الخروج. وقال مطرف بن عبد الله: {أرضي واسعة} أي: رزقي لكم واسع فاخرجوا.

.تفسير الآيات (57- 60):

{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (57) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59) وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60)}
{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} خوفهم بالموت ليهون عليهم الهجرة، أي: كل واحد ميت أينما كان فلا تقيموا بدار الشرك خوفا من الموت، {ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} فنجزيكم بأعمالكم، وقرأ أبو بكر: {يرجعون} بالياء.
{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ} قرأ حمزة، والكسائي: بالثاء ساكنة من غير همز، يقال: ثوى الرجل إذا أقام، وأثويته: إذا أنزلته منزلا يقيم فيه. وقرأ الآخرون بالباء وفتحها وتشديد الواو وهمزة بعدها، أي: لننزلنهم، {مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا} علالي، {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ}.
{الَّذِينَ صَبَرُوا} على الشدائد ولم يتركوا دينهم لشدة لحقتهم، {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} يعتمدون.
{وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا} وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمؤمنين الذين كانوا بمكة وقد آذاهم المشركون: هاجروا إلى المدينة، فقالوا: كيف نخرج إلى المدينة وليس لنا بها دار ولا مال، فمن يطعمنا بها ويسقينا؟ فأنزل الله: {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ} ذات حاجة إلى غذاء، {لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا} أي: لا ترفع رزقها معها ولا تدخر شيئا لغد مثل البهائم والطير، {اللَّه يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ} حيث كنتم، {وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} السميع لأقوالكم: لا نجد ما ننفق بالمدينة، العليم بما في قلوبكم. وقال سفيان عن علي بن الأقمر: وكأين من دابة لا تحمل رزقها، قال: لا تدخر شيئا لغد. قال سفيان: ليس شيء من خلق الله يخبأ إلا الإنسان والفأرة والنملة.
أخبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي، أخبرنا أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي، أخبرني أبو عبد الله الحسين بن محمد الثقفي، أخبرنا عبد الله بن عبد الرحمن الدقاق، أخبرنا محمد بن عبد العزيز، أخبرنا إسماعيل بن زرارة الرقي، أخبرنا أبو العطوف الجراح بن منهال، عن الزهري، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عمر قال: دخلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حائطا من حوائط الأنصار، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقط الرطب بيده ويأكل، فقال: كل يا ابن عمر، قلت: لا أشتهيها يا رسول الله، قال: لكني أشتهيه، وهذه صبح رابعة منذ لم أطعم طعاما ولم أجده، فقلت إنا لله، الله المستعان، قال: يا ابن عمر لو سألت ربي لأعطاني مثل ملك كسرى وقيصر أضعافا مضاعفة، ولكن أجوع يوما وأشبع يوما فكيف بك يا ابن عمر إذا عمرت وبقيت في حثالة من الناس يخبئون رزق سنة ويضعف اليقين، فنزلت: {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا} الآية.
أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أبو محمد الحسين بن أحمد المخلدي، أخبرنا أبو العباس السراج، أخبرنا قتيبة بن سعيد، أخبرنا جعفر بن سليمان، عن ثابت، عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم: كان لا يدخر شيئا لغد.
وروينا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا». أخبرنا أبو منصور محمد بن عبد الملك المظفري، أخبرنا أبو سعيد أحمد بن محمد بن الفضل الفقيه، أخبرنا أبو نصر بن حمدويه المطوعي، أخبرنا أبو الموجه محمد بن عمرو، أخبرنا عبدان، عن أبي حمزة، عن إسماعيل هو ابن أبي خالد، عن رجلين أحدهما زبيد اليامي، عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أيها الناس ليس من شيء يقربكم إلى الجنة ويباعدكم من النار إلا وقد أمرتكم به، وليس شيء يقربكم إلى النار ويباعدكم من الجنة إلا وقد نهيتكم عنه، وإن الروح الأمين قد نفث في روعي أنه ليس من نفس تموت حتى تستوفي رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، ولا يحملنكم استبطاء الرزق أن تطلبوه بمعاصي الله، فإنه لا يدرك ما عند الله إلا بطاعته» وقال هشيم عن إسماعيل عن زبيد عمن أخبره عن ابن مسعود.

.تفسير الآيات (61- 63):

{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) اللَّه يَبْسُط الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (63)}
قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ} يعني كفار مكة، {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ}.
{اللَّه يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}.
{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ} على أن الفاعل لهذه الأشياء هو الله، {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} وقيل: قل الحمد لله على إقراراهم لزوم الحجة عليهم، {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} ينكرون التوحيد مع إقرارهم بأنه الخالق لهذه الأشياء.

.تفسير الآيات (64- 67):

{وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (64) فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67)}
قوله تعالى: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا لَهْوٌ وَلَعِبٌ} اللهو هو: الاستمتاع بلذات الدنيا، واللعب: العبث، سميت بهما لأنها فانية. {وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ} أي: الحياة الدائمة الباقية، و{الحيوان}: بمعنى الحياة، أي: فيها الحياة الدائمة، {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} فناء الدنيا وبقاء الآخرة.
قوله تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ} وخافوا الغرق، {دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} وتركوا الأصنام، {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} هذا إخبار عن عنادهم وأنهم عند الشدائد يقرون أن القادر على كشفها هو الله عز وجل وحده، فإذا زالت عادوا إلى كفرهم. قال عكرمة: كان أهل الجاهلية إذا ركبوا البحر حملوا معهم الأصنام فإذا اشتدت بهم الريح ألقوها في البحر وقالوا يا رب يا رب.
{لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ} هذا لام الأمر، ومعناه التهديد والوعيد، كقوله: {اعملوا ما شئتم} [فصلت- 40]، أي: ليجحدوا نعمة الله في إنجائه إياهم، {وَلِيَتَمتّعُوا} قرأ حمزة، والكسائي: ساكنة اللام، وقرأ الباقون بكسرها نسقا على قوله: {ليكفروا}، {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} وقيل: من كسر اللام جعلها لام كي وكذلك في ليكفروا، والمعنى لا فائدة لهم في الإشراك إلا الكفر والتمتع بما يتمتعون به في العالجة من غير نصيب في الآخرة.
{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} يعني العرب، يسبي بعضهم بعضا، وأهل مكة آمنون، {أَفَبِالْبَاطِلِ} بالأصنام والشيطان، {يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ} بمحمد والإسلام، {يَكْفُرُون}.